تروّج دول عربية وإسلامية لاتفاق غزة كإنجاز دبلوماسي، فيما يخفي مسارها المنسجم مع واشنطن وتل أبيب سعياً لإلغاء دور المقاومة المسلحة.
المفارقة أنّ تلك السردية المضلِّلة، تُخفي حقيقة أنّ الدول المذكورة ساهمت في إيصال الفلسطينيين وحركة «حماس» إلى هذه النتيجة، مرّة بالامتناع عن اتخاذ إجراءات ضغط حقيقية لدفع إسرائيل والولايات المتحدة إلى وقف الحرب قبل كل هذا القتل والتدمير، بل ومساعدة إسرائيل في حربها بأشكال مختلفة، ومرّة أخرى عبر الضغط على «حماس»، للقبول بالاتفاق نفسه بعد أن صوّرته باعتباره الخيار الوحيد على الطاولة لوقف الحرب.
أكثر من ما تقدّم، تسعى الدول المشار إليها، وهي تنسجم في ذلك تماماً مع الرؤية الأميركية والإسرائيلية التي عكستها خطّة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى تصوير الاتفاق باعتبار أنه يتجاوز مجرّد إعلان لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، إلى خلق دينامية جديدة في الشرق الأوسط بشكل عام، ستظهر لاحقاً، ولكن الواضح أنّ البند الأساسي فيها هو محاولة إلغاء دور العمل العسكري، كسبيل لتحرير الأرض المحتلة.
محاولةٌ تمثّل فحواها تطوّراً كبيراً جدّاً وغير مسبوق في الصراع العربي – الإسرائيلي، يتجاوز مسعى القضاء على حركة «حماس» وفصائل المقاومة عموماً، كسبيل لتعزيز مؤسسات الحكم في «دول الاعتدال»، باعتبار الأخيرة قادرة على تقديم بدائل - وهو ما كان، ولا يزال، يمثّل أزمتها الكبرى -، إلى إضعاف المحور الداعم للمقاومة بقيادة إيران، والذي تطمح إليه منذ عقود.
وتماماً مثلما كانت عملية «طوفان الأقصى» نسفاً للتطبيع الذي بدا وشيكاً عشية 7 أكتوبر 2023، وكان يُتوقّع أن تقود قاطرته الرياض، ستكون نهاية الحرب مقدّمة لإحياء هذا المسار. كذلك، كما أفضت عملية «الطوفان» إلى فتح جبهات إسناد متعدّدة ضدّ إسرائيل، من لبنان واليمن والعراق وحتى إيران، فإنّ نهاية الحرب ستؤذن بالانتقال إلى مرحلة جديدة في السعي إلى إخماد هذه الجبهات، على قاعدة إنهاء المقاومة العسكرية التي قادتها طهران، وهو ما تظهر ملامحه في سوريا ولبنان والضغوط الكبيرة التي تمارسها أميركا على العراق.
صفقة غزة يُراد لها أن تنتج دينامية جديدة تلغي دور المقاومة العسكرية
ما تقدّم، يعني أننا أمام تحالف موجود بالفعل، ولكن غير معلن، يتشكّل من الولايات المتحدة وإسرائيل والدول المذكورة. ورغم أنه ثمّة تباين أو تعارض مصالح بين أطراف هذا التحالف، إلا أنه لن يكون لتلك التباينات تأثير كبير على خطّه البياني العام الذي تحدّده الولايات المتحدة وإسرائيل، بدءاً من فلسطين، وصولاً إلى إيران، ومروراً بلبنان وسوريا والعراق واليمن.
وللتوضيح، يمكن إيراد التالي: أدّت عملية «طوفان الأقصى» إلى إعادة صياغة السياسة السعودية تجاه فلسطين على أساس أنه لا تطبيع مع إسرائيل إلا بعد إطلاق مسار يفضي إلى قيام دولة فلسطينية، بمعزل عن جغرافيّتها وطبيتعها، لكن ما هي أدوات الضغط التي تملكها السعودية أو غيرها من الدول المعنيّة لتحقيق ذلك، في ضوء الرفض القاطع من جانب رئيس وزراء إسرائيل وحكومته لأي دولة فلسطينية، حتى لو كانت مجرّد اسم من دون أي واقع حقيقي على الأرض؟ هذا الذي يجب أن يكون الاختبار الحقيقي لقوة الدبلوماسية مقابل المقاومة، وليس مجرّد إنهاء الحرب.
فمتى ما حقّقت إسرائيل أقصى ما استطاعت من أهداف، فلِمَ سيكون لديها مانع لوقف الحرب، لا سيّما وأنها ستستعيد الأسرى في أثناء 72 ساعة من بدء تنفيذ الاتفاق، وستبقي قواتها في قطاع غزة حتى نهاية عملية التنفيذ التي تتضمّن إنهاء المقاومة المسلّحة في القطاع، بخلاف محاولة إعادة ترميم صورتها العالمية الملطّخة، ومكاسب التطبيع؟ اللّهم إلا إذا كان يمكن لأحد أن يحاجج بأنّ تأجيل مشروع التهجير، أو حتى التخلّي عنه نهائياً، هو مكسب يمكن التباهي به. لكن، هل استطاعت إسرائيل تحقيق هذا المشروع ولم تفعل؟
حتى إذا كان ذلك سيُعتبر مكسباً، فإنّ الفضل فيه يعود إلى الصمود الفلسطيني، وإلى رفض مصر مشروع التهجير لأسبابها الداخلية، وليس إلى دبلوماسية الدول العربية أو تركيا. والأخيرة تولّت ممارسة أشدّ الضغوط على حركة «حماس»، وسعت إلى تحقيق مكاسب على حساب الحق الفلسطيني، عبر الرهان على التحالف مع ترامب، الذي غطّى سيطرتها على سوريا، وربما يعطيها دوراً في غزة ما بعد الحرب تستفيد فيه من إعادة الإعمار إذا كانت ستحصل.
في النتيجة، العرب والمسلمون باعوا فلسطين منذ زمن طويل، لكنّهم يستعدّون الآن لتوقيع صكوك التنازل عنها، قطعة قطعة.

